ما وراء مبارك!

مادمنا قد وصلنا إلى مرحلة محاكمة «مبارك» ومادامت المحاكمة سياسية فى أساسها، فإن علينا أن نمتد بالبصر إلى «ما وراء مبارك» لأن الهدف من المحاكمة لا يجب أبداً أن يكون مبارك الشخص، بقدر ما يجب أن تكون المحاكمة للنظام الذى أنتجه على مدى ثلاثين عاماً.. آسف.. فقد جرى إنتاجه على مدى ستين عاماً كاملة، من عام ١٩٥٢ إلى عام ٢٠١١، وإذا لم نعالج الأمور بهذه الطريقة، فسوف نجد أنفسنا، بعد فترة أخرى، ليست طويلة أمام «مبارك» من نوع آخر!

عملياً، لا نظرياً، كان مبارك قد حكم البلاد بمقتضى ما آل إليه من السادات، الذى أراه عظيماً، إلا فى سقطة واحدة وقع فيها فكانت سبباً فيما نحن فيه الآن، حين قام بتعديل المادة ٧٧ من الدستور عام ١٩٨٠ لتجعل الحاكم باقياً فى منصبه إلى الأبد، وبموجب هذه المادة بقى مبارك ٣٠ سنة، رغم أنه قال فى أول أيامه، إنه يفضل البقاء فترة واحدة طولها ست سنوات، ثم قال وقتها، بمنتهى الحرج، إنه بالكثير سوف يبقى فترتين طولهما ١٢ عاماً، فإذا به يحكم ٥ فترات لـ٣٠ سنة كاملة، وكان بقاؤه راجعاً إلى نظام سياسى أنتجه، قبل أن يعود إليه هو كشخص.. وإلا.. فهل نتصور لو أن رجلاً آخر غير «مبارك» قد جاء إلى حكم مصر عام ١٩٨١ بعد السادات.. هل كان من الممكن أن يرحل بعد فترة أو فترتين، بينما الدستور يعطيه ويغريه بأن يبقى، وبينما المنافقون من حوله يزينون له الباطل طول الوقت؟!

إذا كنتم موضوعيين حقاً، وإذا كنتم تريدون أن تحكموا بالعدل، فعلاً، وما دامت المحاكمة سياسية، فإن منطق الأمور يقول إننا يجب أن نعود إلى الجذور، يوم قامت ثورة يوليو عام ٥٢، ووضعت كل السلطات فى يد واحدة، وتوحدت السلطات مع الجالس على الكرسى، حتى صارا شيئاً واحداً، وليس أدل على صدق هذا الكلام، من أن عبدالناصر «مثلاً» لم يترك الحكم باختياره، ولكنه غادر الحكم، بالموت، ثم تكرر الشىء ذاته مع السادات، ولا أحد يعرف ما إذا كان السادات سوف يغادر الكرسى، لو كان قد عاش، أم أنه كان سيبقى ٣٠ عاماً، وربما أكثر، وكذلك الحال مع عبدالناصر.. لا أحد يعرف؟!

كونوا موضوعيين، وحاكموا النظام، لا الشخص.. وكونوا عادلين، وعودوا إلى الجذور، ولا تتوقفوا عند الظاهر منها، وحاكموا بالتالى النظام، لا الشخص، تماماً كما كان الإنجليز قد حاكموا نظاماً بأكمله عندما جاء «كرومويل» إلى الحكم فى القرن السابع عشر، وألغى الملكية، وأعلن الجمهورية، وجعلهم يندمون على كل يوم من أيام الملكية!

لو أن ثورة ٢٥ يناير لم تكن موجودة، ولو بقى مبارك فى الحكم إلى سبتمبر المقبل، ثم قرر وقتها الانصراف، وجاء فى مكانه حاكم آخر، فإن هذا الحاكم الآخر، أياً كان اسمه، كان سوف يظل يحكم ٤٠ عاماً، لا ٣٠ فقط، وكان الحاكم الذى سوف يأتى من بعده سوف يحكم ٥٠ عاماً.. وهكذا.. وهكذا.. لأننا مرة أخرى أمام «نظام حاكم» عمره ٦٠ سنة، وهو نظام ينتج حكاماً من هذا النوع، كما أنتج من قبل عبدالناصر، ثم السادات، فمبارك، ويستحيل أن ينتج نوعاً آخر!

على المستوى الشخصى، لست سعيداً بأن أرى الرجل، الذى كان قائداً أعلى للقوات المسلحة لمدة ٣٠ سنة، وهو يقف هذا الموقف، ولكنى أطلب من كل واحد منكم أن يتساءل بينه وبين نفسه بأمانة: هل سقط النظام الذى أنتج مبارك؟!..

هل سقط حقاً إلى الأبد، وهل يجوز، والحال هكذا، أن نحاكم الجزء، ونتغاضى عن الكل؟!

هناك فرصة إصلاح حقيقية كانت متاحة لمبارك، ولكنه أهدرها فى إصلاحات هامشية، وهذا ما يجب أن نحاسبه عليه، ليس لأن المحاسبة هدف فى حد ذاتها، وإنما لأنها مبدأ سوف يكون فى انتظار أى حاكم مقبل، تتاح له فرصة ولا ينتهزها لصالح شعبه.. ولن يكون ذلك كله ممكنا، إلا بشطب نظام بكامله، وليس مجرد شطب شخص!